فيزيتا
بعد أن طلبوا الطبيب بالتليفون لأجل أبيهم المريض الذى طالت رقدته جلس الأبناء فيما يشبه ورشة عصف ذهنى يتداولون فى شأن الفيزيتا وكيف سيدفعونها، وكادوا يصلون لدرجة الاحتراب لمجرد اقتراح بتقسيمها بالتساوى!. كيف تكون بالتساوى؟ هل دخولهم متساوية حتى تكون مساهمتهم واحدة؟، ثم إن منهم مَن لا يدفع الكثير لكن يسهر يطبب ويمرّض وينقل من الحمّام وإليه، وهذه قد تساوى الكثير إذا ما تُرجمت إلى فلوس!. فى البداية كانت اللهفة على الأب صادقة وبمرور الوقت صار الاهتمام ميكانيكيًا خاليًا من الروح، لكن مع تجدد النوبة وعجز الشيخ عن الحركة لابد من استدعاء الطبيب. المشكلة أن الطبيب الجشع أصبح يرفع أجرته مرة كل شهرين، ومداومتهم على الذهاب إليه لسنوات جعلتهم يتابعون مؤشر صعوده ومراكمته للبنكنوت، وإذا كان هذا هو الشأن فى الفيزيتا الخاصة بالذهاب إليه فى عيادته، فكيف باستدعائه إلى البيت وهو المتعجرف، القرفان من الكون لدرجة الاشمئزاز؟!.
فى الطريق إلى بيت المريض كان الطبيب نصف المشهور يتأرجح بسيارته الجديدة فى الشوارع المزدحمة.. يدخل فى شارع ويخرج منه والزحام هو هو، كأنه لا توجد ساعة ذروة بهذه المدينة. كان يفكر فى العشاء الذى ينتظره مع الشلة ويريد ألا يتأخر عن الافتتاح حتى لا يلتهموا الكابوريا فى غيابه.. هو يعرفهم لن يتركوا له سوى الجمبرى الصغير مثل آخر مرة، كذلك هو لا يريد أن تفوته وصلة الرقص التى ستُحْيِيها البنت الجديدة التى وعدهم النائب بإحضارها، يا ويله منّى لو لم يعجبنى رقصها، ويا ويلها لو رفضت أن تجلس على حِجْرى مثلما جلست زميلتها فى الأسبوع الماضى!.. لعنة الله عليهم ولعنة الله على المريض السخيف الذى مازال يتشبث بالحياة رغم أن أمثاله تجاوزوا مرحلة عذاب القبر بزمان. إن حضرة المريض سيبدأ طبعًا بالشكوى من المغص ووجع العظام وسلس البول وآلام الظهر وصداع الرأس.. لن يترك عِلّة إلا وذكرها.. إنه يظننى سوبرمان القادر على حل كل المشاكل.. دَعْه فى خبله، المهم هو الثمانمائة جنيه التى سيدفعها أهله وهم يظنون أنها تُقربهم إلى الله!.
الأبناء فى غمرة ذعرهم من المبلغ الذى سيدفعونه للطبيب تركوا الأب يتألم ولم ينتبه أحدهم فيقدم له قرصًا مُسكِّنًا، والطبيب الذى نزل من السيارة وأخذ يقفز وسط برك الطين فى الشارع الضيق مازال يسب الدين للمريض ويفكر فى الكابوريا.
عجيب أمر الطبيب الذى يكره مرضاه ويتأفف منهم.. إنه يشبه خبازًا ينعى تنّوره ويستعلى على الفرن الذى يطعمه.. نقول هذا دون أن نتحدث عن الإنسانية والواجب وآداب المهنة. ما أبأس المريض الذى يكاد أبناؤه يتشاجرون بسبب مصاريف علاجه، فى الوقت الذى يسعى فيه الطبيب لإبقائه على قيد الحياة فقط لأن فى ذلك فرصة لاستدعائه مرة أخرى ونَيْل فيزيتا جديدة تغطى نفقات الكابوريا وثمن الدهانات والمستخلصات الجنسية!.
تعليقات
إرسال تعليق