الطبيب المزيف
يحمل بكالريوس زراعة وقرر سنة٢٠١٠ أن يعمل طبيبًا، واختار أمراض النساء والتوليد، يبدو أنه ارتآه تخصصًا سهلًا، بالفهلوة وليس بالعلم يمكن العمل به وقد كان، لم يكن صعبًا عليه أن يحصل على شهادات مزورة، وقتها ظهر مصطلح يخفف من كلمة التزوير، وهو الشهادات والأوراق «المضروبة»، يمكن للمهتمين بعلوم المصطلحات والتلاعب بالمفردات أن يجدوا قاموسًا كاملًا لتغطية الكثير من الانحرافات والفساد بكافة أشكاله ومستوياته، مؤخرا ضبطت وزارة الداخلية مكتبًا تخصص فى «ضرب» كافة الأوراق والشهادات من الدكتوراه وحتى شهادة الميلاد، وهكذا ضرب صاحبنا الشهادات من بكالريوس الطب إلى دبلوم التخصص، وحتى الترخيص بافتتاح العيادة.
فى منطقة فقيرة وبعيدا عن الأعين المتلصصة، اتسع نشاط العيادة وهكذا أسس ثلاث عيادات أخرى، سبب النجاح والانتشار، كما يبدو من آراء المتعاملين معه، هو قيمة الكشف الزهيدة (سبعون جنيهًا)، هذا المبلغ عادة لا يكفى ضعفه، أن يكون «بقشيشا» للممرض فى عيادة مشاهير الأطباء، وانتقل لإجراء جراحات الولادة، المبلغ بسيط كذلك، سبعمائة جنيه للولادة الطبيعية وضعفها للقيصرية.
ارتكب العديد من الأخطاء الطبية، بعض الحالات توفيت، هذا عادى لدى كثيرين، كبار الأطباء يخطئون، أما عند الوفاة «أمر الله ونفذ»، وهنا نسمع عشرات الوقائع عن وفيات فى كبريات المستشفيات ولدى أطباء عظام، ولكن كان لا بد للمستور أن يُكشف، حتى بعد ١١سنة من الانتشار والذيوع وحتى لو جاء الاكتشاف بالصدفة، أو عن غير قصد أو ترصد ومتابعة، الترصد ودقة المتابعة مطلوبان فى مثل هذه الأمور.
فإن حالة ذلك المزيف تدخل ضمن الفساد الصغير وهو عندى أخطر وأشد، لأنه يتغلغل بين البسطاء فى المجتمع ويصبح مع الوقت ملازمًا لكثير من الأمور، ويجعل هناك طلبًا اجتماعيًّا على الفساد، من تزوير أوراق إلى افتتاح عيادات وتأسيس مراكز طبية، وهذا ما نلمسه فى بقية التعليقات وردود الأفعال على اكتشاف الطبيب المزيف.
قر أصحابه بأنه طبيب مزيف، لا يحمل بكالريوس طب، لكن ما دام أنه مارس العمل لمدة ١١سنة وحقق هذا الانتشار، كان يجدر بوزارة الصحة أن تتركه يعمل «بلاش عقد وكلاكيع»، ولدى هؤلاء أن حلاق الصحة كان أميًّا وكان يعالج الناس وأن بكالريوس الطب «بلد شهادات» ليس شرطا لممارسة الطب. وتقدمت مجموعة من التعليقات بهجوم ضار على وزارة الصحة بدءًا من السيدة الوزيرة، التى كان يجدر بها أن تقوم بتكريم ذلك المزيف ومنحه وسامًا، لأنه بغير علم وبدون تخصص اقتحم هذا المجال ونجح فيه، لكن الوزارة قامت بغير ما يحبون، حيث أعملت القانون نحو العيادات غير المرخصة والطبيب الذى ليس طبيبًا.
هكذا لا بأس لدى هؤلاء من أن نرتد إلى عصر حلاق الصحة وطب الدايات، وليذهب العلم هباء ويُهدر ما بُذل فى مجال الصحة العامة من زمن محمد على وكلوت بك وحتى على إبراهيم وصولًا إلى محمد أبوالغار، الذى قفز بهذا التخصص- الذى اختاره المزيف- علميًّا فى بلدنا إلى الأمام وحقق طفرة علمية وطبية مهمة، ولدينا عشرات الأسماء فى مختلف التخصصات من د. محدى يعقوب ومحمد غنيم و..و.. .
الأخطر من مسألة العلم وتطور الطب، هو النظر شزْرًا نحو تطبيق القانون والالتزام بقواعده، القانون لدى البعض نوع من الرفاهية أو«دلع» أو«تربص» من المسؤولين، كنت أنتظر أن يتساءل أحدهم: أين كان المسؤولون بالصحة لمدة ١١سنة وكيف لم يتم تدقيق الأوراق والشهادات الخاصة بالطبيب والعيادة عند الافتتاح؟ هل كانوا موجودين أم غابوا فى قيلولة طويلة مثل قيلولة مهندسى المحليات مع الاعتداء على الأراضى الزراعية والبناء المخالف؟ وهل هناك إحصائيات لمن ترددوا على هذا الطبيب وملاحظة كم الأخطاء التى وقعت وحالات الوفاة أو النجاح الذى تحقق؟ وكنت أتمنى لو التقى أحد الزملاء ذلك المزيف وحاوره بعمق لنعرف كيف يفكر؟ ولماذا سلك هذا النحو؟ لم نجد سوى تعليقات المبرراتية من الممتعضين والقرفانين أو المتعاطفين معه والمساندين له.
فى مثل هذا المناخ، يجب ألا نندهش من كثرة ظهور أطباء مزيفين وحملة دكتوراه مزورين يتقدمون للتوظيف بها تحت بند «حملة الماجستير والدكتوراه» أو يسعون بها للتدريس فى إحدى الجامعات أو المعاهد الخاصة أو.. أو.. ومستريحين يتلقون أموال المواطنين بمئات الملايين بدعوى توظيفها وتقديم فوائد تتجاوز ضعف ما تقدمه البنوك، اثنان منهما جمعا أكثر من مليار جنيه ثم «فَلّا بها»، يقدم مواطنون أموالهم، مع تناس تام لتجربة الريان والسعد وما جراه من كوارث على آلاف المواطنين، فضلا عن خسائر الاقتصاد الوطنى، والعادة اللازمة أن كل مستريح يهرب فى النهاية، ومع ذلك العملية تتكرر، فقد أصبح هناك طلب اجتماعى على الفساد.
تعليقات
إرسال تعليق