المسكنات تجارة الخلاص
"إنها صورة مُشوَّهة، تلك التي تعرض الجسد البشري على أنه كيان هش مُعرَّض للانحراف والتعطُّل، ويحتاج إلى المراقبة والترقيع في كل وقت، هذا هو التصوُّر الذي يُقدَّم للبشر حاليا وبشكل معتاد.. إن سر الطب العظيم الذي يعلمه الأطباء جيدا ولكنه مخبأ عن الجمهور هو أن كل شيء يتحسَّن من تلقاء نفسه"
الطبيب والعالم الأميركي لويس توماس
الطب مُنقذا وجدارا يحتمي به البشر من هجمات الأمراض وأعراضها، ويلجأون إليه لتخفيف آلامهم. وقد تزامن تطوُّر الطب في طفراته الأولى واكتشافات الأدوية مع الحروب والاستعمار، فقد حرصت الدول الاستعمارية على تطوير الأدوية وسُبُل العلاج لكي تحافظ على قوة جيوشها، وكانت المسكنات القوية مطلوبة بشدة لتخفيف آلام الجرحى في حالات الحروب.
فخلال الحربين الأهلية الأميركية (1861-1865)، والألمانية-الفرنسية (1870-1871)، أدّى الاستخدام الطبي الخارج عن التحكُّم للمورفين كمسكن للآلام إلى تحوُّل عدد كبير من الجنود إلى حالة من الإدمان عليه، حتى إن تلك الظاهرة أُعطيت اسما في وقتها دلالة على تأثيرها الكبير وهو "مرض الجنود"، ما حدا بالعلماء في وقتها للبحث عن مواد لها أثر مسكن وفي الوقت نفسه لها خطر إدمان أقل
في العام 1899، أنتجت شركة باير الألمانية الأسبرين في شكل تجاري للمرة الأولى (14)، والذي استُخدم كمسكن ومضاد للالتهاب وخافض للحرارة، وفي الخمسينيات من القرن العشرين بدأ تداول دواء الباراسيتامول والمشهور حاليا بالاسم التجاري (بانادول) (15)، واستمرت عجلة الأبحاث في الدوران حتى قدَّمت الشركات الديكلوفيناك في السبعينيات والذي اتخذ عدة أسماء تجارية أبرزها "فولتارين" و"كتافلام" واللذان يختلفان جزئيا في التركيب (16)، والأدوية السابقة كلها تباع عالميا بدون الحاجة إلى وصفة طبية، إلى جانب العديد من مشتقات الأفيون وأشباهها والتي تتخذ أسماء تجارية متعددة مثل "الترامادول" وتُصرف بوصفة طبية في بعض البلدان، أو بدونها في بلدان أخرى.
كانت المسكنات التي تحتوي على مواد أفيونية ضمن الأدوية التي تحتاج إلى وصفة طبية للحصول عليها، حتى التسعينيات حين ظهرت دراسات تُقلِّل من خطر الإدمان المحتمَل من استخدام هذه الأدوية
تُسمى الأدوية التي يمكن شراؤها من الصيدليات بدون الرجوع للطبيب "*OTC "drugs، وتُعرِّف هيئة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) هذه الأدوية بأنها "الأدوية التي يمكنك شراؤها بدون وصفة طبية، وتكون آمنة وفعالة عند اتباع الإرشادات الموجودة على الملصق وحسب توجيهات أخصائي الرعاية الصحية" (17). إلا أن الشرط اللازم للأمان والفاعلية هو نفسه الذي تتلاعب على أساسه شركات الأدوية حين يضغطون على الهيئات الصحية المختصة لإقرار توفير الدواء بدون وصفة طبية، حيث يقولون إن المريض له الحق في الاختيار وتخفيف ألمه عندما يشعر أنه بحاجة إلى ذلك!
هو ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية فيما يُعرف "بأزمة الأفيون" بداية من العام 1999، حيث كانت المسكنات التي تحتوي على مواد أفيونية ضمن الأدوية التي تحتاج إلى وصفة طبية للحصول عليها، حتى التسعينيات حين ظهرت دراسات تُقلِّل من خطر الإدمان المحتمَل من استخدام هذه الأدوية، وطالبت حينها مؤسسة الألم الأميركية باحترام حق المريض في الحصول على الدواء الذي يُخفِّف ألمه، وتوسَّع الأطباء في وصفها لمرضاهم، وأصبح بعضها يُباع دون الحاجة إلى وصفة طبيب، فتسابقت شركات الأدوية في ضخّ منتجاتها من المسكنات الأفيونية لإدراك حصتها من الأرباح.
النتيجة: أزمة قومية أدّت إلى إعلان ترامب حالة الطوارئ في أغسطس/آب 2017 بسبب حالات الإدمان التي تسبّبت فيها هذه المسكنات، وحالات الوفاة الكبيرة بفعل الجرعات الزائدة منها. وبعد التحقيقات توصَّلوا إلى وقوف شركة "بوردو" (purdue) المُنتِجة لمسكن أوكسيكودون وراء حملات الدعاية والتوصيات بإتاحة المسكنات الأفيونية للمرضى بشكل أكثر حرية، كما ثبت تلقّي مؤسسة الألم الأميركية التي شجعت توفير هذه الأدوية تبرعات كبيرة من شركات الأدوية (18)، وغرمت أيضا شركة "جونسون" العملاقة نصف مليار دولار بسبب مساهمة أدويتها المسكنة في أزمة الأفيون
هذا الدور لشركات الأدوية في التلاعب بسوق الدواء على حساب المرضى وطلبا لمراكمة الربح حوَّل المريض من مستفيد من الرعاية الصحية ومستخدم للدواء لعلاج ألمه إلى مستهلك تحشو شركات الأدوية فمه بالمسكنات جنيا للربح (20)، وحوَّل الدواء من وسيلة للشفاء والتخلُّص من الألم إلى سلعة تُنفِق على ترويجها الشركات مليارات الدولارات، وليس ترويجا للأطباء فقط، وإنما إعلانات موجهة للمرضى أيضا، وعملية الترويج هنا إنما "هي عملية اجتماعية تُوسِّع بمقتضاها شركاتُ الأدوية حدودَ التشخيص، لتُوسِّع سوقها وتُقنع العامة بأن أي مشكلة اجتماعية أو مشكلة شخصية معقَّدة هي عبارة عن مرض، من أجل بيع أدويتها" (21)، ومن الأمثلة الواقعية إعلان دواء "نوفادول" الذي يُعرَض في القنوات المصرية، والذي يخاطب النساء من خلال الحديث عن مشاكلهن الاجتماعية.
أصبحت الأدوية التي تُباع بدون وصفة طبية (OTC) تشبه السلع الاستهلاكية اليومية، مثل منتجات الأغذية ومستحضرات التجميل، بمعنى أن المستهلكين يختارون ما يريدون ويشترون المنتجات بحرية، إما من الصيدليات أو حتى من محال التسوق أو من المتاجر الإلكترونية في بعض البلدان. لهذا السبب أصبح من المهم لدى الشركات في حالة هذه الأدوية ليس فقط مراعاة المتطلبات الأساسية المتمثِّلة في فعالية الدواء وسلامته وموثوقيته، بل أيضا الاهتمام بقيمة العلامة التجارية للمنتج وقدراته على تحقيق أعلى المبيعات.
فقد بلغت قيمة السوق العالمية للأدوية التي تُباع بدون وصفة طبية 114 مليار دولار أميركي في عام 2017، وشكَّلت البلدان المتقدِّمة 57٪ من المجموع، ويُعَدُّ السوق الأميركي هو الأكبر من حيث الحجم الكُلي وعلى أساس الإنفاق للفرد، والذي تتمتع فيه الشركات بحرية أعلى في التسويق (22).
سلاح بحدين
رغم تحوُّل المسكنات إلى تجارة تجلب المليارات لشركات الأدوية، تبقى الحقيقة بأنها ساعدت وتساعد وستساعد البشر، فما الذي قد يتمناه أي شخص يُعاني من الألم، أيًّا كان موضعه في جسده، أكثر من أن يتناول حبة صغيرة تُخلِّصه من ألمه في أي وقت؟ لكن يبقى التساؤل المهم: ما الذي يحدث بعد تسكين الألم؟ يُشير عدد من الأبحاث أن المسكنات ليست آمنة بشكل كامل كما قد يتصوَّر البعض، فاستخدامها بشكل مستمر، وفي غير أوقات الحاجة الماسة، ودون حساب صحيح للجرعات، قد يؤدي إلى الكثير من الآثار الجانبية التي لا تُحمد عقباها، والتي قد تصل إلى زيادة فترة الألم نفسه!
تناول مسكنات الألم المشتقة من الأفيون، مثل المورفين وغيره من الأدوية، يؤدي إلى تزايد الآلام المزمنة لدى فئران التجارب، حيث يؤدي تناول مسكن المورفين لعدة أيام فقط إلى آلام مزمنة تستمر لعدة أشهر، ويرجع السبب في ذلك إلى أن العلاج بهذه النوعية من المسكنات يؤدي إلى انبعاث مؤشرات الألم من خلايا مناعية معينة في الحبل الشوكي. كما تُشير النتائج إلى أن الإفراط في وصف المسكنات المشتقة من الأفيون مؤخرا ربما يكون سببا في انتشار الآلام المزمنة لدى البشر، لما للمسكنات الأفيونية من تأثير سلبي على الشعور بالألم حتى لو استُخدمت لفترة وجيزة فقط من الوقت كما يذكر القائمون على الدراسة (23).
أما عن المسكنات التي يروج استخدامها بدون وصفات طبية في عالمنا العربي وتتعدد أسماؤها التجارية، فإن أعراضها الجانبية تبدأ من التهاب وتقرح جدار المعدة وصولا إلى فشل أعضاء الجسم، فدواء الباراسيتامول (البنادول) من أعراض المبالغة في تناوله نوبات صداع ارتدادية، حيث يزداد عدد نوبات الصداع وقوتها، كما قد تُسبِّب الجرعات الزائدة منه فشلا في وظائف الكبد. أما المسكنات غير الستيرويدية كالديكلوفيناك (فولتارين وكتافلام) فإنها تؤدي إلى أعراض جانبية خطيرة عند إساءة استخدامها، فقد تؤدي إلى أضرار بالغة بالجهاز الهضمي مثل قرحة المعدة، كما تؤثر على وظائف الكلى ما قد يصل إلى فشل كلوي، وتؤدي إلى تغيُّر في مستوى الصفائح الدموية وضغط الدم، وفي بعض الحالات ينتج عنها فشل في عضلة القلب!
الأدوية متوفرة وفي متناول الجميع، وفي الوقت ذاته تُشكِّل حلا وقتيا لمشكلاتهم الصحية، فإن مشكلة التعامل مع الألم والآثار الجانبية التي تُسبِّبها الأدوية لن يتم حلها. فالألم مؤثر قوي على حياة البشر، وحينما يوضعون أمامه ويملكون اختيار أن يعتمدوا على الأدوية التي ستُسبِّب لهم الأذى على المدى البعيد، فإنهم يُفضِّلون الراحة الوقتية، مهملين ما ستتعرّض له أجسادهم باستخدام هذه المسكنات
حتى يجد البشر حلولا أفضل لمشكلات أجسادهم وأفكارهم، فإن النصائح الطبية الموصية بأن يتم تناول المسكنات فقط عند الحاجة المُلِحَّة، وبأقل كمية ولأقل وقت ممكن، مع الانتباه للمخاطر المتوقَّعة والتفاعل بين الأدوية المختلفة، كما يوصي معهد الجودة والكفاءة في الرعاية الصحية الألماني (26) وغيره من المؤسسات الطبية، ترسم سبيلا ممكنا لتقليل الأضرار قدر المستطاع، وتضعنا أمام مسؤوليتنا تجاه أجسادنا حين نشعر بالألم، فهل الحل هو أن نتناول المسكنات؟
تعليقات
إرسال تعليق