الفقه والطب

 فالأطباء انشغلوا بطب الأبدان.

والفقهاء انشغلوا بمعرفة أحكام أفعال الجوارح والأبدان.

والمتصوفة انشغلوا بأعمال الباطن وأحوال النفس وطبّ القلوب وأمراضها.

التداخل بين الطب والفقه لدى علماء المسلمين ما قبل الحداثة، كما وقع التداخل بين الطب والفلسفة في الموروث الفلسفي اليوناني قبل سيادة التصورات الحديثة التي تُغلّب المنظور المادي والتجزيئي للإنسان والمعرفة.

أولاً: المنظور الفقهي للإنسان وأوجه رعايته للبدن

الجهة الأولى: أن حفظ النفس (والبدن آلة النفس الإنسانية) 

الجهة الثانية: أن البدن أداة للقيام بالعبادات والطاعات المفروضة التي هي غاية وجود الإنسان؛

 الحرصُ على تحصيل علم الطب، وأنه يدخل في فروض الكفاية من زاويتين: الأولى: للقيام بواجب الدين والحاجة إلى صحة الأبدان للقيام بالعبادات، والثانية: للتحرز من الوقوع في الإثم. ويجمع ذلك كله مقصد انتظام المعاش واستقامة نظام الحياة، ومن هنا أثار بعض الفقهاء مسألة تداوي المسلم عند الطبيب غير المسلم؛ لأن التداوي هنا يمس أمرين: سلامة الأبدان وسلامة الأديان على المعنى السابق من أن البدن آلة العبادات.

الجهة الثالثة: أن ما يصدر عن البدن من أفعال هو محلٌّ للأحكام الفقهية، فالأفعال الإنسانية بالنسبة إلى أحكام الشرع خمسة: واجب ومندوب، ومباح، ومكروه ومحرم،

*

ثانيًا: الطب والشرع والمنظور المصلحي

ابن تيمية أن "الشرع طب القلوب، والأنبياء أطباء القلوب والأديان"، وقرر الشاطبي أن "الشارع هو الطبيب الأعظم"

الأول: البعد الغائي والمصلحي لكل من الطب والشرع؛ لأن هدفهما إصلاح الإنسان ظاهرًا وباطنًا بمكوناته المختلفة، ووازى بعض الفلاسفة المتقدمين بين طب الأجساد وطب النفوس كما فعل أبو بكر الرازي الطبيب مثلاً الذي صنف فيهما معًا كتابين منفصلين، فجعل أحدهما لطب البدن، والآخر لطب الأخلاق سماه الطب الروحاني حيث يهدف فيه إلى مداواة النفوس.

الثاني: الجمع بين الجزئي والكلي، حيث يتشابه عمل كل من الطبيب والفقيه في الوقائع من حيث النظر في قوانين كلية من جهة، والنظر في كل جزئية بحسبها من جهة أخرى، ولهذا قال السيوطي: "المفتي حكمه حكم الطبيب؛ ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها؛ بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان، فالمفتي طبيب الأديان وذلك طبيب الأبدان"،

الثالث: وحدة الإنسان وترابط أجزائه

  • فالطب يختص بجانب الخلق (الإرادة الإلهية التقديرية) ويتحرى قوانين الله في خلق الإنسان (ما هو كائن)؛ إذ الإنسان عالمٌ مواز لعالم الكون.
  • والفقه يختص بجانب الأمر (الإرادة الإلهية التشريعية) أي الأمر والنهي وكيفية استجابة الإنسان لهما (ما يجب أن يكون).

ثالثًا: تطورات حقل الطب والطبيعة الإنسانية


الطب الحديث ليس هو الطب القديم الذي جرى القياس عليه أو المشابهة بينه وبين الشرع، بل إن رؤيتنا للإنسان نفسه تغيرت؛ فالمنظور الأخلاقي السابق لم يعد هو الحاكم للطب، فطرأ عدة تحولات أبرزها ثلاثة:

  1. الطب الحديث لم يعد يختص بالمريض وشفائه فقط، بل تجاوزه إلى الإنسان الصحيح "وجودة الحياة أو الحياة النوعية" (quality of life)، وهنا طُرحت مفاهيم مثل الموت الرحيم، والمفاضلة بين المرضى على أساس جودة الحياة (وطُرحت فكرة التضحية بالمعوقين وكبار السن عند التزاحم في وباء كورونا مثلاً).
  2. أن الطب الحديث لم يعد يكتفي بفهم قوانين ما هو قائم فقط بل تجاوزه إلى التدخل والتغيير و"التحسين"، أي أنه انتقل من اكتشاف الخلق والخضوع لقوانينه (الإرادة الإلهية التقديرية) إلى التدخل فيه وإطلاق الأحكام التقويمية عليه (الإرادة التشريعية). أي أنه اختلط لديه الجانبان: التقديري والتشريعي؛ حيث يتشبه فيهما العلم بدور الإله لجهتي الخلق والأمر معًا.
  3. أن التقنيات الطبية الحديثة باتت تتيح الكثير من الإمكانات التي لم تكن في حيز الإمكان من قبل، ومحركها الرئيس تلبية رغبات الإنسان وتفضيلاته التي لا تقود فقط إلى إشباع رغباته فحسب (وفق منظور حديث لفهم الطبيعة البشرية) بل إلى تعظيم رأس المال أيضًا. وهي إمكانات تطرح العديد من الأسئلة التي ينشغل بها حقل الأخلاقيات الطبية اليوم، وترجع إلى سؤال كبير مفاده: هل كل ممكن يجوز فعله أو تحقيقه؟ ومن هنا أثارت التقنيات الطبية الحديثة ولا تزال تثير الكثير من الأسئلة الأخلاقية، بدءًا من تقنيات الإنجاب الصناعي ونقل وتغيير أعضاء البدن، والتحكم بجنس الجنين، وصولاً إلى التدخلات الجينية سواء العلاجي منها لإصلاح الأمراض أم التحسيني بهدف الحصول على تفضيلات خاصة تمس شكل البدن أو إمكاناته.
تقود هذه التطورات إلى منظور مختلف عن الإنسان والطبيعة الإنسانية، يُخل بالتصور الغائي الأخلاقي الذي سبق شرحه وكان سائدا ما قبل الحداثة. فبدل تهذيب النفس وأخلاقها كما تجلت في الفلسفة الأفلاطونية عبر الموازنة بين قوى النفس وكبح جماح رغباتها، وتحقيق مفهوم التوسط والاعتدال في فضائل النفس حسب الفلسفة الأرسطية، أو عبر ضبط أفعال الإنسان سواء في نفسه أم الصادرة عنه بتقويمات فقهية أخلاقية وفق التصور الفقهي الإسلامي بحيث يقود إلى إصلاح الإنسان وتهذيبه وفق منظور أخلاقي كلي يستحضر الوجود الغائي للإنسان كما سبق، عملت الحداثة على إشباع هذه الرغبات إلى أقصى حد وإحياء مذاهب اللذة التي كانت هامشية في الفلسفة اليونانية وما بعدها. بل إن الأمر تجاوز حقل الطب إلى حقول معرفية أخرى كالسياسة والاقتصاد اللذين يتصلان -وفق المنظور الفلسفي اليوناني- بالحكمة العملية، ويتأطران بمنظور أخلاقي يقوم على تدبير العامة والمنزل تدبيرًا يقود إلى تحقيق الفضائل وإقامة المدينة الفاضلة والأسرة الفاضلة.

رابعًا: ضرورة التفكير النقدي


الأول: استعمال مقولات كلية مثل "المصلحة والمفسدة" و"مقاصد الشريعة"، وهي مقولات صالحة لتبرير كل شيء وأي شيء، ويمكن أن تستعمل للشيء ونقيضه بحسب من يستعملها. فالمصالح والمفاسد مرهونةٌ -في المنظور الفقهي- بتحديد الشارع -سبحانه وتعالى- لها اعتبارًا أو إلغاءً، وهي مصالح متعديةٌ -لا في نَفعها ومَن تشملهم فقط، بل في كونها تشمل مصالح الدنيا والآخرة أيضًا- فلا تقوم مصلحة دينية وهي متعارضة مع مصلحة دنيوية اعتبرها الشارع. أما الطبُّ فإن "منفعته إنما هي في الدنيا فقط"، كما قال ابن حزم الأندلسي. ومن هنا فإن وقوع التعارض في تقدير المصالح بين الطبيب والفقيه غير مقدر في الزمن ما قبل الحديث، ولكنه قائم طبعًا في زمن الحداثة؛ لأن مجال الطب ووظيفته تغيرت ولم يعد ذلك التشابه بين الطب والشرع قائمًا، ولا أدوار الطبيب والفقيه المعاصرين كأدوار الطبيب والفقيه الكلاسيكيين!

 مقاصد الشريعة الذين حولوا قيم الحداثة والتنمية إلى مقاصد للشارع!

الثاني: قد يتورط بعض المفتين في التسليم باختصاص الطبيب في هذا الشأن وأنه هو الذي يحدد المصلحة والمفسدة، في حين أن المصلحة الشرعية تختلف عن مطلق المصلحة، خاصة في ظل تطورات الحداثة وتقنياتها التي ستفرض أثرها أيضًا على مفهوم المصلحة وما يعد مصلحة للإنسان وما لا يعد، فضلاً عن تقويم تلك المصلحة وإذا ما كانت مرادة لله تعالى أو لا.

الثالث: الاكتفاء بتلك المقارنات السابقة بين الطب والشرع؛ أو الاستعانة بنصوص فقهية كلاسيكية يُحيل فيها الفقهاء السابقون إلى أهل الخبرة أو الطبيب للقفز إلى القول: إن مقاصد الطب هي نفسها مقاصد الشرع أو إن تقدير المصالح والمفاسد متروك للطبيب، من دون وعي بالتطورات السابقة في حقل الطب وتبدلات المنظور للإنسان وللطبيعة الإنسانية حيث انتقلنا من المنظور الأخلاقي الغائي إلى منظور أخلاق اللذة والمنفعة في زمن الحداثة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فيروس كورونا: هل تستطيع تجنب لمس وجهك لتفادي الإصابة بالفيروس؟

11 مرضاً تسبب تغيّرات في الشخصية