قراءة نقدية لكشف حساب وزارة الصحة أمام البرلمان علاء غنام
Feb 4, 2020
أعلنت وزيرة الصحة أن الوزارة انتهت من فحص 49 مليونا و927489 ألف مواطن مصرى ضمن مبادرة الرئيس للقضاء على فيروس سى والكشف على الأمراض غير السارية وذلك منذ أكتوبر 2018. وتم صرف العلاج بالمجان لحوالى 1.1 مليون مريض ثبت إصابتهم بفيروس سى وأثبتت التحاليل صلاحية تلقيهم للعلاج، وذلك يمثل أرقاما محددة إلى حد كبير ويعد مجالا للفخر للبعض، وربما يجب الإشادة به. ولكن، تظل عملية التقييم العلمى لهذا الجهد مجالا للمناقشة من حيث ضرورة إجراء دراسة دقيقة توضح فيها الوزارة نسب انتشار المرض الآن Prevalence قياسا لما كان عليه الوضع قبل بدء الحملة.
ومتى نستطيع بالفعل أن نعلن للعالم بثقة علمية أن معدلات انتشار المرض أصبحت أقل من 1% من السكان. فهذه هى النسبة التى تؤهلنا للمطالبة بشهادة عالمية تؤكد خلو البلاد من هذا المرض، الذى كنا نصنف باعتبارنا الدولة الأولى عالميا فى معدلات انتشاره، قياسا لعدد السكان. (كانت معدلات انتشار المرض قبل بدء حملة القضاء على فيروس سى الأخيرة تصل إلى قرابة 9% من السكان، وفقا للمسح الصحى الأخير DHS فى عام 2014).
خاصة أن السيدة الوزيرة أشارت فى تقرير إنجازات الوزارة إلى أن المبادرة استهدفت خلو مصر الدائم من فيروس سى والقضاء عليه، وذلك لم يقتصر على المصريين فقط، بل يشمل مسح الأجانب من ضيوف مصر المقيمين من غير المصريين، حيث تم فحص 68 ألفا و641 مقيما وتقديم العلاج لهم بالمجان لمن ثبتت إصابته.وزارة الصحة
***
وتابعت السيدة الوزيرة أن مبادرة 100 مليون صحة لم تقتصر على فحص فيروس سى فقط، بل امتدت لتشمل أطفال المدارس من خلال حملة الكشف عن أمراض السمنة/ التقزم/ الأنيميا فى المدارس الابتدائية حيث انطلقت الحملة بالتوازى فى شهر نوفمبر عام 2018 وتمكنت من فحص 9.7 مليون طالب وتم صرف علاج الأنيميا بالمجان. بالإضافة إلى التوعية وصرف العلاج للأطفال ضد السمنة والنحافة. وهو عمل هائل بالفعل، فالمعروف علميا أن مؤشر مركب الحالة الغذائية للأطفال الذى يشمل (التقزم/ الهزال/ فقر الدم تحت خمس سنوات) هو من مؤشرات قياس أداء القطاع الصحى فى محور الصحة فى أهداف التنمية المستدامة 2030، والذى كان يستهدف الأطفال تحت خمس سنوات من العمر فى 2020، والسؤال هنا ما هو الوضع الحالى فى هذا الصدد بعد انتهاء الحملة؟ ومتى يمكن قياس نتائج الحملة الفعلية؟
خاصة أن مثل هذا المؤشر المركب مرتبط بظروف اقتصادية واجتماعية، ربما أكبر من قدرات وزارة الصحة على علاجها، وما هو العلاج الذى تم صرفه لعلاج السمنة والنحافة على سبيل المثال؟ طبقا لما ورد على لسان الوزيرة أنها صرفت علاج للأطفال ضد السمنة والنحافة. وهل يمكن تقييم مثل هذه المبادرة الكبيرة دون إجراء مسح صحى سكانى جديد DHS يستخدم عينات ممثلة وواسعة؟ وذلك لم يحدث منذ عام 2014 (تاريخ آخر مسح صحى سكانى). ومن الجدير بالذكر أن الوزيرة أشارت إلى أن جميع المبادرات تحت شعار 100 مليون صحة مستمرة ومستدامة، وذلك ما نثنى عليه لما لنا من تجارب سابقة فى العديد من المبادرات الرأسية الصحية التى توقفت بمجرد توقف التمويل المخصص لها، وكنا دائما ندعو لدمج مثل هذه المبادرات الرأسية فى وحدات طب الأسرة (الرعاية الصحية الأساسية)، ضمن إطار نظام التأمين الصحى الشامل، لضمان استدامتها واستمراريتها.
وهذا الاتجاه هو ما تروج له كثير من أدبيات حوكمة النظم الصحية فى ضرورة البدء فى دمج البرامج الرأسية فى إطار مستوى الرعاية الأساسية، للحفاظ على استمراريتها وفعاليتها وإمكانية تقييم نتائجها على المدى المتوسط والطويل.
***
وأعلنت الوزيرة فى نفس التقرير أنه تزامنا مع رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى عام 2019، أطلقت مبادرة الرئيس لعلاج مليون إفريقى من فيروس سى فى عدد من البلدان الإفريقية الصديقة، لدعم تلك الدول فى مسح وعلاج مواطنيها ونقل تجربة مصر فى حملة 100 مليون صحة للقضاء على فيروس سى والكشف عن الأمراض غير السارية.
وذلك بالفعل اتجاه إيجابى وجيد لدعم التعاون الإفريقى بين الأشقاء خاصة الذين يربطنا بهم شريان الوجود مثل نهر النيل. ومع ذلك، يجب تحديد آليات واضحة لإجراء مثل هذه المسوح وطرق العلاج التى نستطيع تقديمها بالفعل ليبقى لها أثر حقيقى فى علاقتنا السياسية والاقتصادية والثقافية بالبلدان الشقيقة.
إن علاج مليون إفريقى مصاب بفروس سى ليست بالعملية البسيطة، وهى على الأرجح تستلزم مسح لقرابة 50 أو 60 مليون مواطن إفريقى فى عدة بلدان، مما يعنى أهمية تحديد خطط واضحة وآليات تنفيذ محددة لعلاج هذا العدد الكبير. ولكن من ناحية أخرى، هذا الاتجاه يرفع من سقف طموح وزارة الصحة فى هذا المجال مما يستحق الإشادة به مع البدء فيه.
وأشارت السيدة الوزيرة إلى أن مصر نالت إشادات دولية على تجربتها فى تطبيق التأمين الصحى الشامل (كتجربة فريدة فى الشراكة والتنسيق الوطنى بين الوزارات والجهات المعنية المختلفة وضمان تطبيقه بما يحقق كفاءة وجودة الخدمة الطبية وتحقيق التغطية الصحية الشاملة).
وهذا فى الواقع يعد أحد محاور العمل المستمر الجاد الذى سوف يستمر لقرابة عقد من الآن، فإن بدء التطبيق فى مراحله الأولى ما زال محلا للتقييم، والمعروف أن مشاكل وتحديات التطبيق الأولى ربما مازالت تثير الكثير من القلق لدى العديد من الخبراء المتابعين لهذه التجربة الفريدة. ولعل ذلك من طبيعة الأشياء، فلا نريد المبالغة أو التهوين من حجم ما تم إنجازه بالفعل فى هذا المجال.
وفى الخلاصة، إن تقارير الإنجازات من عادة جهازنا البيروقراطى منذ زمن طويل، وهى للأسف لا تشمل بشفافية التحديات والإخفاقات، التى لن يقلل الاعتراف والتصريح بها من قيمة المسئول، فذلك أدعى للاحترام والموضوعية وقد تحفز الآخرين على المشاركة فى مواجهتها، خاصة إذا كانت أكبر من قدرة الوزارة على مواجهتها.
وكما أن الإنجازات شىء يدعو للفخر، فالإخفاقات المعترف بها وتحديد أسبابها والبدء فى علاجها شىء يدعو للاحترام والتقدير. ولهذا نؤكد على أساسيات الحوكمة الرشيدة والشفافية بصدر رحب يسع كل الاتجاهات طالما أن هدفنا هو خدمة الصالح العام، أى صالح المواطن البسيط، وهذه هى المصلحة الأساسية فى هذا النظام الصحى.
خاصة أن السيدة الوزيرة أشارت فى تقرير إنجازات الوزارة إلى أن المبادرة استهدفت خلو مصر الدائم من فيروس سى والقضاء عليه، وذلك لم يقتصر على المصريين فقط، بل يشمل مسح الأجانب من ضيوف مصر المقيمين من غير المصريين، حيث تم فحص 68 ألفا و641 مقيما وتقديم العلاج لهم بالمجان لمن ثبتت إصابته.وزارة الصحة
***
وتابعت السيدة الوزيرة أن مبادرة 100 مليون صحة لم تقتصر على فحص فيروس سى فقط، بل امتدت لتشمل أطفال المدارس من خلال حملة الكشف عن أمراض السمنة/ التقزم/ الأنيميا فى المدارس الابتدائية حيث انطلقت الحملة بالتوازى فى شهر نوفمبر عام 2018 وتمكنت من فحص 9.7 مليون طالب وتم صرف علاج الأنيميا بالمجان. بالإضافة إلى التوعية وصرف العلاج للأطفال ضد السمنة والنحافة. وهو عمل هائل بالفعل، فالمعروف علميا أن مؤشر مركب الحالة الغذائية للأطفال الذى يشمل (التقزم/ الهزال/ فقر الدم تحت خمس سنوات) هو من مؤشرات قياس أداء القطاع الصحى فى محور الصحة فى أهداف التنمية المستدامة 2030، والذى كان يستهدف الأطفال تحت خمس سنوات من العمر فى 2020، والسؤال هنا ما هو الوضع الحالى فى هذا الصدد بعد انتهاء الحملة؟ ومتى يمكن قياس نتائج الحملة الفعلية؟
خاصة أن مثل هذا المؤشر المركب مرتبط بظروف اقتصادية واجتماعية، ربما أكبر من قدرات وزارة الصحة على علاجها، وما هو العلاج الذى تم صرفه لعلاج السمنة والنحافة على سبيل المثال؟ طبقا لما ورد على لسان الوزيرة أنها صرفت علاج للأطفال ضد السمنة والنحافة. وهل يمكن تقييم مثل هذه المبادرة الكبيرة دون إجراء مسح صحى سكانى جديد DHS يستخدم عينات ممثلة وواسعة؟ وذلك لم يحدث منذ عام 2014 (تاريخ آخر مسح صحى سكانى). ومن الجدير بالذكر أن الوزيرة أشارت إلى أن جميع المبادرات تحت شعار 100 مليون صحة مستمرة ومستدامة، وذلك ما نثنى عليه لما لنا من تجارب سابقة فى العديد من المبادرات الرأسية الصحية التى توقفت بمجرد توقف التمويل المخصص لها، وكنا دائما ندعو لدمج مثل هذه المبادرات الرأسية فى وحدات طب الأسرة (الرعاية الصحية الأساسية)، ضمن إطار نظام التأمين الصحى الشامل، لضمان استدامتها واستمراريتها.
وهذا الاتجاه هو ما تروج له كثير من أدبيات حوكمة النظم الصحية فى ضرورة البدء فى دمج البرامج الرأسية فى إطار مستوى الرعاية الأساسية، للحفاظ على استمراريتها وفعاليتها وإمكانية تقييم نتائجها على المدى المتوسط والطويل.
***
وأعلنت الوزيرة فى نفس التقرير أنه تزامنا مع رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى عام 2019، أطلقت مبادرة الرئيس لعلاج مليون إفريقى من فيروس سى فى عدد من البلدان الإفريقية الصديقة، لدعم تلك الدول فى مسح وعلاج مواطنيها ونقل تجربة مصر فى حملة 100 مليون صحة للقضاء على فيروس سى والكشف عن الأمراض غير السارية.
وذلك بالفعل اتجاه إيجابى وجيد لدعم التعاون الإفريقى بين الأشقاء خاصة الذين يربطنا بهم شريان الوجود مثل نهر النيل. ومع ذلك، يجب تحديد آليات واضحة لإجراء مثل هذه المسوح وطرق العلاج التى نستطيع تقديمها بالفعل ليبقى لها أثر حقيقى فى علاقتنا السياسية والاقتصادية والثقافية بالبلدان الشقيقة.
إن علاج مليون إفريقى مصاب بفروس سى ليست بالعملية البسيطة، وهى على الأرجح تستلزم مسح لقرابة 50 أو 60 مليون مواطن إفريقى فى عدة بلدان، مما يعنى أهمية تحديد خطط واضحة وآليات تنفيذ محددة لعلاج هذا العدد الكبير. ولكن من ناحية أخرى، هذا الاتجاه يرفع من سقف طموح وزارة الصحة فى هذا المجال مما يستحق الإشادة به مع البدء فيه.
وأشارت السيدة الوزيرة إلى أن مصر نالت إشادات دولية على تجربتها فى تطبيق التأمين الصحى الشامل (كتجربة فريدة فى الشراكة والتنسيق الوطنى بين الوزارات والجهات المعنية المختلفة وضمان تطبيقه بما يحقق كفاءة وجودة الخدمة الطبية وتحقيق التغطية الصحية الشاملة).
وهذا فى الواقع يعد أحد محاور العمل المستمر الجاد الذى سوف يستمر لقرابة عقد من الآن، فإن بدء التطبيق فى مراحله الأولى ما زال محلا للتقييم، والمعروف أن مشاكل وتحديات التطبيق الأولى ربما مازالت تثير الكثير من القلق لدى العديد من الخبراء المتابعين لهذه التجربة الفريدة. ولعل ذلك من طبيعة الأشياء، فلا نريد المبالغة أو التهوين من حجم ما تم إنجازه بالفعل فى هذا المجال.
وفى الخلاصة، إن تقارير الإنجازات من عادة جهازنا البيروقراطى منذ زمن طويل، وهى للأسف لا تشمل بشفافية التحديات والإخفاقات، التى لن يقلل الاعتراف والتصريح بها من قيمة المسئول، فذلك أدعى للاحترام والموضوعية وقد تحفز الآخرين على المشاركة فى مواجهتها، خاصة إذا كانت أكبر من قدرة الوزارة على مواجهتها.
وكما أن الإنجازات شىء يدعو للفخر، فالإخفاقات المعترف بها وتحديد أسبابها والبدء فى علاجها شىء يدعو للاحترام والتقدير. ولهذا نؤكد على أساسيات الحوكمة الرشيدة والشفافية بصدر رحب يسع كل الاتجاهات طالما أن هدفنا هو خدمة الصالح العام، أى صالح المواطن البسيط، وهذه هى المصلحة الأساسية فى هذا النظام الصحى.
+++++++++++++++++++
التقاضى الاستراتيجى والحق فى الصحة.. نماذج تطبيقية
الحق فى الرعاية الصحية حق شامل ومعيارى ضمنته وحمته العديد من الوثائق العالمية والمحلية، وأكده الدستور المصرى الصادر فى 2013/ 2014 فى مادته رقم 18.
ويلجأ المدافعون والمناصرون لهذا الحق إلى آليات عديدة فى الدعوة له، منها البحث والتقصى والدراسة، وحملات المناصرة فى أشكالها المتنوعة، وعند اللزوم يتم اللجوء إلى آلية شهيرة عالميا ومحليا هى التقاضى الاستراتيجى أمام المحاكم محليا ودوليا أيضا. وذلك المفهوم الهام ترسخ عبر السنين فى نماذج عديدة وفى عدة دول.
والتقاضى للدفاع عن هذا الحق المرتبط بالحياة أساسى؛ لأنه يهدف إلى منازعة الحكومات فى إرساء سياسات وإجراءات وتشريعات محددة تمنعهم من النكوص عن الوفاء بهذا الحق.
وتكمن أهمية استخدام التقاضى الاستراتيجى لحماية الحق فى الصحة، والذى يمس أوسع قطاع من الشعب، إذا تأكدنا من أن هناك قرارات أو سياسات مقدمة للتنفيذ قد تهدد هذا الحق.
وفى هذا السياق، لدينا فى هذا المجال تاريخ عريق من التقاضى الاستراتيجى لصون الحق فى الصحة، ربما كان أشهر مثال على ذلك هى القضية الشهيرة التى رفعتها منظمات المجتمع المدنى فى عام 2007 ضد قرار رئيس الحكومة وقتها رقم 637 لسنة 2007 بتحويل الهيئة العامة للتأمين الصحى إلى شركة قابضة، وبعد عام ونصف، وفى 4 سبتمبر 2008، صدر حكم من محكمة القضاء الإدارى بوقف قرار رئيس مجلس الوزراء بإنشاء الشركة القابضة للرعاية الصحية وكل ما يترتب عليه من سياسات وإجراءات فيما يتعلق بقانون التأمين الصحى الشامل الذى كان يعد فى هذا الاتجاه.
حيث أشارت حيثيات الحكم إلى: «أن النصوص القانونية لا تصاغ فى فراغ ولا يجب انتزاعها عن المصلحة الاجتماعية المقصودة منها، ولذلك فإنه لم يعد جائزا أن ينال أى تشريع من عناصر [هيئة التأمين الصحي] ولا أن يغير من طبيعتها أو يجردها من لوازمها ولا يفصلها عن بعض أجزائها أو يدمر أصلها أو يقيد من مباشرة الحقوق التى تتفرع عنها من غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية».
***
وبفضل هذا الحكم التاريخى الذى أدخل تغييرات جوهرية على بنية الحماية القانونية للحق فى الصحة فى مصر، والذى أرسى أساسا قانونيا جديدا بشأن العلاقة بين المواطنين والدولة فيما يتعلق بالتأمين الصحى، كان تشكيل لجنة بعد عام 2011 لإعادة صياغة نظام التأمين الصحى الشامل الجديد، ومن بينهم عدد من الأعضاء ممثلين للمجتمع المدنى ومن منظمات حقوقية وأحزاب، وعملت اللجنة على صياغة نظام تأمين صحى شامل جديد، يتجاوز أخطاء هذه المرحلة السابقة (قبل 2011).
وكانت اللجنة حريصة على تأسيس الهيئات الجديدة للتأمين الصحى الشامل باعتبارها هيئات عامة لها شخصية اعتبارية، وتأكيد الملكية العامة للنظام الجديد، وتحقيق تطوير وتحسين المؤسسات والوحدات والمستشفيات العامة.
والمعروف أن مستويات التشريع تشمل الدستور وهو الأعلى مرتبة فى سلم تدرج القواعد القانونية، ويجب أن يصدر موافقا لها القوانين، وهى التى تنظمها قرارات ولوائح تفسيرية وتنظيمية، وهذه القوانين لا يجب أن تعارض أو تنقص من جوهر ما يهدف إليه الدستور.
و فى ذلك السياق، حدد دستور 2014 وفقا للمادة 18 منه، ولأول مرة فى تاريخ الدساتير المصرية، على أن الصحة حق تلتزم الدولة باحترامه وحمايته وتنفيذه، حيث تنص المادة 18: «لكل مواطن الحق فى الصحة وفى الرعاية الصحية المتكاملة وفقا لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التى تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافى العادل. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحى شامل لجميع المصريين يغطى كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين فى اشتراكاته أو إعفائهم منها طبقا لمعدلات دخولهم. ويجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة».
وفى سياق التقاضى الاستراتيجى لتنفيذ الحق فى الصحة، صدر حكم من محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية حول إلزام هيئة التأمين الصحى ووزارة الصحة بدفع نفقات الانتقال لمرضى الفشل الكلوى لأماكن الغسيل الكلوى البعيدة عن أماكن إقامتهم، حيث قال الحكم فى ديباجته:
«إن التضامن الاجتماعى والعدالة الاجتماعية يمثلان ركنا جوهريا للمقومات الأساسية التى يقوم عليها أى نظام ديمقراطى، ذلك أن التزام الدولة بكفالة خدمات التأمين الاجتماعى والصحى يعمق رابطة الولاء السياسى والانتماء بين المواطن ووطنه مما يعود بالاستقرار على الوطن».
ولذلك فإن المحكمة (التى رأسها المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي) أصدرت عددا من الأحكام لصالح مرضى الفشل الكلوى فى العلاج وفى إلزام وزارة الصحة وهيئة التأمين الصحى بصرف بدل انتقال لمرضى الفشل الكلوى من الرجال والسيدات بمختلف قرى ومدن ومراكز محافظة البحيرة من منازلهم إلى المستشفيات التى يعالجون فيها، بواقع 50 جنيها للجلسة الواحدة لثلاث مرات أسبوعيا.
وجاء فى حيثيات الحكم أن إجبار الحكومة لمرضى الفشل الكلوى للجوء للقضاء لنيل حقوقهم فى بدل الانتقال يعد إساءة لاستعمال حق التقاضى، بعد أن استقر القضاء الإدارى على الفصل فى أصل استحقاق بدل الانتقال، وأن يتعين عليها منحهم هذا البدل دون إجبار المرضى إلى اللجوء للقضاء.
***
ولكن، فى 24/ 8/ 2019، صدر قرار من الهيئة العامة للإسعاف يشمل رفع مقابل العديد من أسعار الخدمات التى من المفترض أن تقدمها الهيئة من حيث الأصل كخدمة مجانية (باعتبارها خدمة طوارئ)، لكن ذلك القرار الصادر عن الهيئة العامة للإسعاف، قد غالى كثيرا فى تقديم هذه الخدمة، حتى ولو بفرض أنها خدمة بمقابل مادى، فإنه فى هذا الصدد يجب أن يكون المقابل عادلا ومتناسبا مع الخدمة ذاتها، بفرض كونها سلعة، ولكن إذا ما عاودنا النظر إلى هذه الخدمة ومدى ارتباطها بحاجة المواطنين الماسة إليها، ولا تكون إلا فى ظروف اضطرارية وملحة وعاجلة، فيجب عدم استغلال حاجة المواطنين إليها لرفعة تسعيرتها إلى هذا النحو الذى قد يُعجز الكثير.
ومن زاوية قانونية وتفاعلا مع القانون كسياج حام للمجتمع، فإن صدور مثل ذلك القرار يشكل خروجا عن مبدأ المشروعية وسيادة القانون لتعارضه من الأساس مع النصوص الدستورية، بخلاف الاتفاقيات الدولية المعنية بهذا الأمر، بل إن الأمر قد تعدى ذلك إلى مخالفة نص قرار رئيس الجمهورية رقم 139 لسنة 2009، بإنشاء هيئة الإسعاف نفسها، وقد جاء بنص المادة الثانية من هذا القرار بقانون أنه:
تهدف الهيئة إلى تحقيق الأغراض الآتية: «إتاحة خدمة الإسعاف الطبى بالمجان لجميع المواطنين والمقيمين بجمهورية مصر العربية فى حالات الحوادث والكوارث والطوارئ وغيرها من الحالات التى يصدر بشأنها قرار من مجلس إدارة الهيئة، أيًا كان النظام العلاجى أو التأمينى الذى يخضعون له».
وهذا النص هو الواجب أن يكون مرجعية الهيئة القانونية الأولية حال إصدارها لأى قرار، دونما أى تجاوز أو تخطٍ لحدوده.
وفى الخلاصة، يمكن أن يكون التقاضى الاستراتيجى نموذجا قبل أن يكون حلا فى اختصام هذا القرار الإدارى المعيب نموذجا للمراجعة من صانعى السياسات الصحية، وأيضا يعتبر حماية لحق المواطنين فى الصحة الذى أكده الدستور.
والتقاضى للدفاع عن هذا الحق المرتبط بالحياة أساسى؛ لأنه يهدف إلى منازعة الحكومات فى إرساء سياسات وإجراءات وتشريعات محددة تمنعهم من النكوص عن الوفاء بهذا الحق.
وتكمن أهمية استخدام التقاضى الاستراتيجى لحماية الحق فى الصحة، والذى يمس أوسع قطاع من الشعب، إذا تأكدنا من أن هناك قرارات أو سياسات مقدمة للتنفيذ قد تهدد هذا الحق.
وفى هذا السياق، لدينا فى هذا المجال تاريخ عريق من التقاضى الاستراتيجى لصون الحق فى الصحة، ربما كان أشهر مثال على ذلك هى القضية الشهيرة التى رفعتها منظمات المجتمع المدنى فى عام 2007 ضد قرار رئيس الحكومة وقتها رقم 637 لسنة 2007 بتحويل الهيئة العامة للتأمين الصحى إلى شركة قابضة، وبعد عام ونصف، وفى 4 سبتمبر 2008، صدر حكم من محكمة القضاء الإدارى بوقف قرار رئيس مجلس الوزراء بإنشاء الشركة القابضة للرعاية الصحية وكل ما يترتب عليه من سياسات وإجراءات فيما يتعلق بقانون التأمين الصحى الشامل الذى كان يعد فى هذا الاتجاه.
حيث أشارت حيثيات الحكم إلى: «أن النصوص القانونية لا تصاغ فى فراغ ولا يجب انتزاعها عن المصلحة الاجتماعية المقصودة منها، ولذلك فإنه لم يعد جائزا أن ينال أى تشريع من عناصر [هيئة التأمين الصحي] ولا أن يغير من طبيعتها أو يجردها من لوازمها ولا يفصلها عن بعض أجزائها أو يدمر أصلها أو يقيد من مباشرة الحقوق التى تتفرع عنها من غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية».
***
وبفضل هذا الحكم التاريخى الذى أدخل تغييرات جوهرية على بنية الحماية القانونية للحق فى الصحة فى مصر، والذى أرسى أساسا قانونيا جديدا بشأن العلاقة بين المواطنين والدولة فيما يتعلق بالتأمين الصحى، كان تشكيل لجنة بعد عام 2011 لإعادة صياغة نظام التأمين الصحى الشامل الجديد، ومن بينهم عدد من الأعضاء ممثلين للمجتمع المدنى ومن منظمات حقوقية وأحزاب، وعملت اللجنة على صياغة نظام تأمين صحى شامل جديد، يتجاوز أخطاء هذه المرحلة السابقة (قبل 2011).
وكانت اللجنة حريصة على تأسيس الهيئات الجديدة للتأمين الصحى الشامل باعتبارها هيئات عامة لها شخصية اعتبارية، وتأكيد الملكية العامة للنظام الجديد، وتحقيق تطوير وتحسين المؤسسات والوحدات والمستشفيات العامة.
والمعروف أن مستويات التشريع تشمل الدستور وهو الأعلى مرتبة فى سلم تدرج القواعد القانونية، ويجب أن يصدر موافقا لها القوانين، وهى التى تنظمها قرارات ولوائح تفسيرية وتنظيمية، وهذه القوانين لا يجب أن تعارض أو تنقص من جوهر ما يهدف إليه الدستور.
و فى ذلك السياق، حدد دستور 2014 وفقا للمادة 18 منه، ولأول مرة فى تاريخ الدساتير المصرية، على أن الصحة حق تلتزم الدولة باحترامه وحمايته وتنفيذه، حيث تنص المادة 18: «لكل مواطن الحق فى الصحة وفى الرعاية الصحية المتكاملة وفقا لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التى تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافى العادل. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحى شامل لجميع المصريين يغطى كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين فى اشتراكاته أو إعفائهم منها طبقا لمعدلات دخولهم. ويجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة».
وفى سياق التقاضى الاستراتيجى لتنفيذ الحق فى الصحة، صدر حكم من محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية حول إلزام هيئة التأمين الصحى ووزارة الصحة بدفع نفقات الانتقال لمرضى الفشل الكلوى لأماكن الغسيل الكلوى البعيدة عن أماكن إقامتهم، حيث قال الحكم فى ديباجته:
«إن التضامن الاجتماعى والعدالة الاجتماعية يمثلان ركنا جوهريا للمقومات الأساسية التى يقوم عليها أى نظام ديمقراطى، ذلك أن التزام الدولة بكفالة خدمات التأمين الاجتماعى والصحى يعمق رابطة الولاء السياسى والانتماء بين المواطن ووطنه مما يعود بالاستقرار على الوطن».
ولذلك فإن المحكمة (التى رأسها المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي) أصدرت عددا من الأحكام لصالح مرضى الفشل الكلوى فى العلاج وفى إلزام وزارة الصحة وهيئة التأمين الصحى بصرف بدل انتقال لمرضى الفشل الكلوى من الرجال والسيدات بمختلف قرى ومدن ومراكز محافظة البحيرة من منازلهم إلى المستشفيات التى يعالجون فيها، بواقع 50 جنيها للجلسة الواحدة لثلاث مرات أسبوعيا.
وجاء فى حيثيات الحكم أن إجبار الحكومة لمرضى الفشل الكلوى للجوء للقضاء لنيل حقوقهم فى بدل الانتقال يعد إساءة لاستعمال حق التقاضى، بعد أن استقر القضاء الإدارى على الفصل فى أصل استحقاق بدل الانتقال، وأن يتعين عليها منحهم هذا البدل دون إجبار المرضى إلى اللجوء للقضاء.
***
ولكن، فى 24/ 8/ 2019، صدر قرار من الهيئة العامة للإسعاف يشمل رفع مقابل العديد من أسعار الخدمات التى من المفترض أن تقدمها الهيئة من حيث الأصل كخدمة مجانية (باعتبارها خدمة طوارئ)، لكن ذلك القرار الصادر عن الهيئة العامة للإسعاف، قد غالى كثيرا فى تقديم هذه الخدمة، حتى ولو بفرض أنها خدمة بمقابل مادى، فإنه فى هذا الصدد يجب أن يكون المقابل عادلا ومتناسبا مع الخدمة ذاتها، بفرض كونها سلعة، ولكن إذا ما عاودنا النظر إلى هذه الخدمة ومدى ارتباطها بحاجة المواطنين الماسة إليها، ولا تكون إلا فى ظروف اضطرارية وملحة وعاجلة، فيجب عدم استغلال حاجة المواطنين إليها لرفعة تسعيرتها إلى هذا النحو الذى قد يُعجز الكثير.
ومن زاوية قانونية وتفاعلا مع القانون كسياج حام للمجتمع، فإن صدور مثل ذلك القرار يشكل خروجا عن مبدأ المشروعية وسيادة القانون لتعارضه من الأساس مع النصوص الدستورية، بخلاف الاتفاقيات الدولية المعنية بهذا الأمر، بل إن الأمر قد تعدى ذلك إلى مخالفة نص قرار رئيس الجمهورية رقم 139 لسنة 2009، بإنشاء هيئة الإسعاف نفسها، وقد جاء بنص المادة الثانية من هذا القرار بقانون أنه:
تهدف الهيئة إلى تحقيق الأغراض الآتية: «إتاحة خدمة الإسعاف الطبى بالمجان لجميع المواطنين والمقيمين بجمهورية مصر العربية فى حالات الحوادث والكوارث والطوارئ وغيرها من الحالات التى يصدر بشأنها قرار من مجلس إدارة الهيئة، أيًا كان النظام العلاجى أو التأمينى الذى يخضعون له».
وهذا النص هو الواجب أن يكون مرجعية الهيئة القانونية الأولية حال إصدارها لأى قرار، دونما أى تجاوز أو تخطٍ لحدوده.
وفى الخلاصة، يمكن أن يكون التقاضى الاستراتيجى نموذجا قبل أن يكون حلا فى اختصام هذا القرار الإدارى المعيب نموذجا للمراجعة من صانعى السياسات الصحية، وأيضا يعتبر حماية لحق المواطنين فى الصحة الذى أكده الدستور.
تعليقات
إرسال تعليق