رحلة الطبيب إلى الطب.. الوصول غير مضمون

 شهران للباطنة العامة. شهران للجراحة العامة. شهران لأمراض النساء والتوليد. شهران لطب الأطفال. شهران للتخصص (يختار الطبيب مجموعة من الأقسام التي يريد التدرب فيها، ويتم توزيعه عليها حسب تنسيق داخلي. على سبيل المثال تخصص الأمراض النفسية والعصبية أو تخصص أمراض الجلدية والتناسلية) شهران استقبال وطوارئ.

أدور بين تلك الأقسام للتدرب على الممارسة الفعلية للطب في مستشفيات الجامعة أو مستشفيات وزارة الصحة، ولا يحق لي العمل في القطاع الخاص، أو بلفظ آخر مزاولة الطب إلا بعد صدور تصريح مزاولة المهنة لي.

في مستشفيات الجامعة، كل شيء يعمل بالأختام. إذا قرر الطبيب المقيم أن المريض يحتاج إلى عمل أشعة وتحاليل فتكون مهمتك كطبيب امتياز أن تختم الورق (أورنيك) من نائبك، ثم تذهب إلى التمريض بالورق المختوم حتى يتم سحب العينة، ويقع عليك أيضًا مسؤولية الذهاب إلى المعمل لتوصيل العينات وأحيانًا العودة لاستلام النتائج عند ظهورها

 تكليف الأطباء بتوزيعهم على المستشفيات والوحدات الصحية في مختلف أنحاء الجمهورية، وعادةً تكون الوحدات الصحية على حدود القرى فتحتاج من الأطباء الكثير من المجهود للوصول لمكان الوحدة. هنا تبدأ مرحلة اللعب مع الوحوش.

الأغلب قضيت السنين الماضية في عزلة تامة بين الكتب والمحاضرات والامتحانات التي لا تنتهي. للأسف الشديد في هذه السنين لا تحتك بالمرضى ولا تعلم كيف سيكون الصراع معهم لتغيير معتقد ما لديهم قد يؤثر في دورة المرض أو لطلب المداومة على دواء معين بطريقة معينة. إذا كنتَ طبيبًا جيدًا، فأنت تعلم أن المضادات الحيوية تضر في حالة استخدامها بدون داعٍ. لكن كيف تقنع متلقي الخدمة الطبية المصمم على أن المضادات الحيوية هي الشيء الوحيد المفيد له؟ هنا يكون الاختبار الأول للطبيب المكلف: إما أن يرضخ لرغبة المريض ويصرف له علاج دون داعٍ أو أن يلعب مع الوحوش ويصارع الجهل والفقر وكثافة عدد المرضى، ويشرح لكل مريض العلاج المناسب في حالته. ويقضي الطبيب حوالي سنتين في تلك الوظيفة تحت مسمى ممارس عام في انتظار نزول حركة النيابات، والتي تكون بداية التخصص بشكل أساسي.

يُعفى من هذا التكليف الأطباء من أصحاب التقديرات المرتفعة، والذين يعملون كأطباء مقيمين في الجامعات، حيث يتوجهون إلى نيابة الجامعة، والتي تعتبر تعيين تعرضه الجامعة على أبنائها للقيام بالمهام بداخلها. وتكون تلك النيابة نوعان: «ببوست» أي وظيفة ثابتة، وفي هذه الحالة يستمر الطبيب في العمل وتحضير الدراسات العليا وشرح التخصص لصغار الأطباء الطلبة، أو «من غير بوست» أي أن تقتصر تلك الوظيفة على القيام بالمهام الإكلينيكية فقط، ولا يحق له أن يصبح معيدًا. يتجه بعض الأطباء للنيابة بدون بوست لأن ذلك يساعده في تسجيل الدراسات العليا بشكل أسرع، ويضعه على بداية طريق التخصص بمجرد الانتهاء من الامتياز.

من خلال النيابة، يقوم الطبيب بتسجيل ماجستير في التخصص الذي يريده. كان ذلك هو النظام المتعارف عليه في السنين السابقة، إلا أن هذا النظام قد تغير منذ السنة الماضية، لأن هناك اتجاهًا عامًا في وزارة الصحة لتفعيل نظام الزمالة المصرية (وهو نظام جديد أقرته وزارة الصحة المصرية لدراسة التخصص) في التخصصات المختلفة، ليكون ذلك بديلًا عن الماجستير. وتكون تلك الزمالة الطريق للحصول على لقب أخصائي.

وبعد أن كان من المتعارف عليه أن يقضي الأطباء العاملون في وزارة الصحة سنتين من التكليف ثم الالتحاق بالنيابة، أصبح النظام الحالي هو التكليف على نظامين: نظام الممارس العام، أي أن يستمر الأطباء في العمل كممارسين عموم حتى نزول حركة زمالة لا أحد يعلم توقيتها تحديدًا (توزع هؤلاء السنة الماضية على مستشفيات العزل لمكافحة فيروس كوفيد-19) أو في حالة نزول حركة زمالة، يُدمج التكليف بالزمالة، ويعمل الطبيب الزميل المكلف في تلك الحالة بين الوحدة الصحية وبين المستشفى المعتمدة في نظام الزمالة.

بمجرد استلام التكليف (ممارس عام أو زميل مكلف) أو نيابة الجامعة، يكون للطبيب مرتب شهري حوالي ثلاثة آلاف جنيه شهريًا، لكن شتان الفرق في عدد ساعات العمل. ففي نيابة الجامعة، يعمل الأطباء لعدد ساعات مهول في ظروف صعبة وبمرتب ضئيل. تجعل نيابة الجامعة الطبيب تحت رحمتها، فتسلب منه كل شيء، لا حياة اجتماعية ولا نقود كافية، تسلب منه حتى ساعات نومه (النوبتجيات في الجامعة تتراوح بين 24 ساعة أو 36 ساعة متواصلة)

رغم هذا، يفضل الأطباء نيابة الجامعة لأن الجامعة هي السبيل الأفضل لتعلم الطب. فبحكم التراتبية، تجد نفسك مع الأطباء الأعلى منك في الخبرة والأكبر منك في العمر، تتعلم عن طريق الاحتكاك، ولأنك أيضًا في «وش المدفع» أنت الطبيب المقيم الموجود بعد انصراف الأخصائي والمدرس المساعد والأستاذ الدكتور. ولسبب آخر يتجه الأطباء لنيابة الجامعة، وهي سرعة الحصول على الماجستير بالمقارنة مع الأطباء العاملين في وزارة الصحة. أن تحصل على الماجستير يعني أن تصبح أخصائي، معناه أنك قادر على فتح عيادة باسمك، وذلك يعني أن ثمن الكشف سيصبح لك بالكامل ولن يقتسمه معك بالنصف صاحب العيادة الفلانية التي تعمل فيها لأنك لم تنهِ الماجستير بعد، كما أن الماجستير يحسن الفرص في السفر للخارج وهذا يعني مستوى اجتماعي أفضل.

لكن، الوجه الآخر لهذا يتعلق بديناميكيات القوى بين الطبيب والمشرف على الماجستير. إذا سألت صديقك الطبيب عما بينه ومشرف الرسالة، ستسمع ما يذهلك. أتذكر وأنا طالبة كان صديق يحكي لي عن فترة نيابة أستاذ دكتور شهير للغاية. نقل صديقي الحكاية عن والدته، والتي كانت تعمل ممرضة في القسم ذاته وقتها. الأستاذ الدكتور الشهير اعتاد وقت إعداد رسالته أن يلبي لمشرفه المشاوير التي يطلبها منه، لدرجة أنه طلب منه مرة في إحدى المحاضرات أن يذهب لمحل أحذية لكي يبدل الحذاء بمقاس أكبر!

دوائر العنف والاضطهاد -هنا أقصد العنف المعنوي- لا تنتهي. حلقة مفرغة يدور فيها الأطباء جميعهم، صغيرهم وكبيرهم، إلا قلة قليلة تنوي الخروج من تلك الدائرة. 

هذا تدريب ويحق لي قانونًا أن أحضر كما أشاء وليس كما هو يريد. في النهاية رفض أن يمضي لي على الجواب الذي يثبت أيام حضوري. 

 تعنت المشرفين تجاه شباب الأطباء، ولكنه يخبرني بأن دائرة الاضطهاد هي حلقة مفرغة. عزمت على نقل قسم آخر لأكسر تلك الدائرة، لأن سلامي النفسي أهم من تلك المهاترات، لكن هذا في حد ذاته امتياز، كوني قادرة على الاختفاء عن وجهه. لكن ماذا لو قابلني مدير آخر في قسم آخر بنفس الأسلوب؟ هذا سؤال لا أعرف إجابته حتى تلك اللحظة. أعرف أيضًا أن وعيّ بديناميكات القوى هو الذي دفعني لتغيير الوضع ولا أعلم هل سأنجح أم لا.

أما الطبيب الذي يعمل في وزارة الصحة وغير الواعي بدوره في المنظومة، فهو يصارع بسبب ضعف الإمكانيات في كثير من الأماكن، وعدم وجود نظام تعليمي قوي في أغلب مستشفيات وزارة الصحة، وكذلك اضطهاد بعض المديرين. يجد الطبيب نفسه يقضي سنين من حياته بلا أي تقدم في مستواه بسبب ضعف الإمكانيات. ولذلك يلجأ بعض الأطباء إلى الاستقالة من الوزارة والتقديم على تدريب في الجامعة تحت مسمى نائب زائر. يقوم الطبيب بتقديم طلب للجامعة يعبر فيه عن رغبته في التعلم كنائب زائر، وهنا تشترط الجامعة أن يكون المتقدم طبيبًا حرًا، بمعنى أنه لا يعمل في أي من مستشفيات وزارة الصحة. يدفع الطبيب نقودًا في هذه الحالة للجامعة لكي تقوم بتدريبه ويستطيع الالتحاق بالماجستير بسهولة مثل زملائه نواب الجامعة. لكن في المقابل تُطلب منه نفس المهام المطلوبة من نائب الجامعة. في سبيل التعلم، يدفع النائب الزائر المزيد من المجهود، مثله مثل نائب الجامعة، ولكن بفارق أن نائب الجامعة يحصل على مرتب آخر الشهر، بينما الزائر يدفع للجامعة.

برغم ضعف مرتبات الأطباء والحاجة لمزيد من التعلم لاكتساب الخبرة اللازمة، يجد الأطباء أنفسهم يعملون عدد ساعات غير آدمي. لهذا السبب اخترتُ بشكل واعٍ تمامًا عدم الاكتفاء بالعمل في الطب، أحتاج إلى عشرات وربما مئات آلاف الجنيهات للتعلم الجيد ورفع كفاءتي، والطب لأمثالي حديثي التخرج لا يجلب تلك النقود.

أنا لست وحدي. يحكي محمد إبراهيم (اسم مستعار)، 36 سنة، أخصائي أطفال من صعيد مصر، أنه اضطر للسفر لأنه لم يقدر على الاستمرار بتلك الطريقة في مصر. «قدمت استقالتي من التكليف لأنني رفضت أن تمر سنتين من عمري هباء» يقول لي. «أقنعت والدي برغبتي في الالتحاق بالجامعة كنائب زائر وهذا يعني أنه سيصرف عليّ في تلك الفترة حتى أحصل على رسالة الماجستير، وبالفعل فعلت ذلك وتعلمت الكثير في الجامعة، كانت المستشفى التي أعمل بها تخدم جميع محافظات وجه قبلي، لكن طبعًا لم أسلم من تعنت مشرفي الماجستير. في مرة من المرات كنت أخطط للذهاب إلى القاهرة لتخليص بعض الأوراق ومن شدة تسلط المشرفة استأذنت منها قبل السفر وقالت لي سافر، بعد أن وصلت القاهرة بسبع ساعات اتصلت بي وطلبت مني الحضور وقالت لي لو مجتش مش هاخلصلك رسالتك، أخذت القطار وعدت لأن عليّ أن أرضخ حتى أنتهي من الرسالة، وبمجرد الانتهاء من الرسالة ظهرت فرصة سفر في السعودية وقدمت وتم قبولي، لكني هنا أعمل كطبيب مقيم وليس أخصائي لأن حاملي الماجستير الحديث يعملون كطبيب مقيم، قبلت بالعرض برغم عدم رضائي عن المرتب، لكن هو في النهاية أفضل مما كنت عليه، أحضر الآن امتحان مزاولة مهنة الطب في بريطانيا لرغبتي في الذهاب إلى هناك، أسعى إلى أن أصبح استشاري في تخصصي لأني أحبه، لكن في نفس الوقت أريد أن يتم تقديري بشكل جيد، وجهتي هي إنجلترا لأن وضع الأطباء هناك أفضل، فبحسب مقارنة بسيطة نرى فيها أن مشرفتي في رسالة الماجستير كانت سبب في قلق واكتئاب عانيت منه لفترة. ويحكي لي صديقي أن النظام الصحي في إنجلترا يشجع العاملين فيه على الرياضة من أجل صحة أفضل»

في الدراسات المتعلقة بالهجرة، يتم استخدام مصطلح brain drain بكثرة، ويُقصد به هجرة العاملين في الخدمات الصحية بشكل عام من أجل تحسين مستوى وجودة حياتهم، وذلك يضمن مرتبًا أعلى وظروفًا معيشية ووضعًا سياسيًا أفضل، وتقدم تكنولوجي ملحوظ. وللشروط ذاتها، يتقدم الأطباء للحصول على المعادلات الأجنبية، وأصبح هناك تزايد في الأعداد بشكل ملحوظ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في دائرة معارفي من الأطباء 90% منهم يُحضّر معادلة أجنبية إما لبريطانيا أو أمريكا. ويتجه الأغلب لبريطانيا لسهولة الامتحانات والتكلفة الأقل نسبيًا مقارنة بأمريكا.

وللأسف الشديد، سيكون لتلك الهجرة أثرًا سيئًا على القطاع الصحي في مصر، والتي بدأنا بالفعل في المعاناة منها، وهي نقص عدد الأطباء في بعض التخصصات.

قلّب رزقك 

أحب تعبير «قلّب رزقك» وأراه أكثر التعبيرات المناسبة لظروف عمل الأطباء في مصر. الشكل التقليدي المتعارف عليه للحصول على وظيفة هو التقديم عن طريق إرسال السيرة الذاتية وعمل مقابلة ثم تبدأ في العمل بمجرد قبولك، لكن المسار الوظيفي مختلف في الطب، وخاصة في السنين الأولى بعد التخرج، يكون نظام العمل «دروبات» Drops، إلى أن يتم تثبيتك، يعني أن يغيب زميل لك في التخصص في نبوتجية ما وتأخذها أنت لحاجتك للنقود. تكون هذه النوبتجية على الأغلب 24 ساعة، ويتراوح سعرها حسب التخصص، فيسجل أعلى رقم لتخصصات العناية المركزة والطوارئ والجراحات، تليها تخصصات الباطنة، ليكون أقلها هي نوبتجية النفسية والعصبية، وبسبب ذلك الوضع تشعر دائمًا بالتهديد، لأن المتحكم في وجودك هو مدير المكان، والذي ليس بالضرورة طبيبًا، وﻻ يُعَينك بالضرورة لكفاءتك أو يُقيلك لضعفها. 

قد يتجه البعض الآخر لوظائف أكثر استدامة، مثل شركات التأمين الصحي الخاصة، فهذا النوع من العمل يوفر بيئة عمل مناسبة من حيث عدد ساعات العمل والموقع الجغرافي للعمل وكذلك المرتب، وقد تتنوع تلك الوظائف الأكثر استدامة في مجالاتها، فتضم الترجمة الطبية وكتابة المحتوى الطبي، ويُطلق على تلك الوظائف Paramedical، فهي إلى حد كبير تختلف عن الوظيفة التقليدية للطبيب، لكنها تشترط في أغلب الأحيان أن يكون المتقدم حاصل على شهادة جامعية طبية.

فوق كل هذا، تسبب وباء كوفيد-19 في تعقيد حياة الأطباء. «التعليم بقى عن بعد» قالها لي صديق طبيب عندما سألني عن سبب قدومي للتدريب في أحد مستشفيات القاهرة. يعمل هو في نفس المستشفى، أما أنا فأدفع نقودًا للمستشفى في مقابل تدريبي. أثّر فيروس كوفيد-19 على الحياة بشكل عام، ومنها العملية التعليمية في كل مكان. أثّر ذلك أيضًا على الخدمات الصحية، فالكثير منها تعطل بسبب الوباء، وبالتالي فرصة الأطباء في التدريب على تلك الخدمات أصبحت معدومة حتى إشعار آخر.

أشعر أني في طريق لا أعرفه، وأني ضللت كل الطرق على الرغم من محاولاتي المستمرة في التمرد من أجل التعلم، فلم أستلم وظيفتي الحكومية بسبب الوباء، ولم أتمكن من تسجيل زمالة كدراسات عليا لأنني لست على قوة الوزارة، ولا أستطيع حتى التقديم على نائب زائر لأنني لست طبيبًا حرًا، فهذا يتطلب تقديم استقالة، وحتى هذا الاختيار غير متاح، فالاستقالات لا يمكنك تقديمها منذ بداية الوباء.

أقف أنا وزملائي من حديثي التخرج في انتظار فرص التعلم الأفضل، سواء كان ذلك بانتهاء الوباء أو بالتغيير في النظام، أيهما أقرب.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فيروس كورونا: هل تستطيع تجنب لمس وجهك لتفادي الإصابة بالفيروس؟

11 مرضاً تسبب تغيّرات في الشخصية